في عام 1996 دعت الجمعية العامة للأمم المتحدة الدول الأعضاء إلى الاحتفال باليوم العالمي للتسامح في 16 نوفمبر تشرين الثاني من كل عام، وذلك من خلال القيام بأنشطة ملائمة توجه نحو كل من المؤسسات التعليمية وعامة الجمهور. كان ذلك قبل نحو عقدين وأزيد قليلاً، وربما لم تكن قد انفجرت وقتها موجات الكراهية، ودائرة الحروب التي صاحبت أحداث الحادي عشر من سبتمبر وحتى الساعة، وكانت النتيجة الحالة التي وصل إليها العالم شرقاً وغرباً، ذلك أننا نرى أصوليات راديكالية علا صوتها من جهة، وقوميات وشوفينيات قاتلة انتصبت رايتها من جهة ثانية، عطفاً على عصبيات مهلكة تعود بالعالم إلى عصور القبلية من ناحية أخرى.

التسامح.. المعنى والمبنى
ما هو التسامح، وهل الأمر قيمة مجردة تخضع للحسابات العددية أم أنه مساحة واسعة من المشاعر والأفكار والعواطف الخلاقة التي تتجاوز إساءات الآخر، وتقفز على ردات الفعل العنيفة؟ وهل أصبح شكل العالم أفضل بعدما قامت الولايات المتحدة الأميركية بالحرب على أفغانستان وغزو العراق كردات فعل انتقامية لما جرى في الحادي عشر من سبتمبر 2001؟
ربما لم يكن المطلوب هو التسامح العاطفي لكن على الأقل التسامح العقلاني، فها هي الأرض تشتعل بموجات الحقد وتمتلئ بعواطف الكراهية، ومساحة التسامح التي تسمح لنا أن نعايش مشاعر التعاطف والرحمة والحنان لمن أساءوا إلينا، تضيق إلى حد الاضمحلال والتقلص.
ولعل التساؤل الحقيق بنا طرحه في مثل هذا اليوم: هل يمكن أن يضحى عالمنا أفضل حال تفشي فيروس التسامح بالمعنى الإيجابي حول العالم عوضاً عن الكراهية؟

التسامح بين الأنا والآخر
الإشكالية الحقيقية في قضية التسامح، وهي قضية فلسفية بامتياز، أنها صراع يدور بين الأنا وتعظيمها والآخر وحقه في الحياة والوجود. والشاهد أنه لا يمكن أن يكون هناك تسامح مع الآخر المغاير بحكم العرق أو الجنس، اللون أو الدين، إن لم يكن هناك تسامح داخلي، أو في حق النفس، فالفرد المتسامح مع ذاته يعترف بأخطائه، ويبدي توبته وندمه، ومع ذلك لا يتوقف عن النقد الذاتي.
ولعل الإنسان الذي تسامح وتصالح مع ذاته قادر على تخطي الأنا إلى الآخر، إذ يعرف التسامح مع الآخر بأنه عملية متعمدة يتم بمقتضاها التغاضي عن الإساءات الموجهة للذات من قبل فرد آخر أو أفراد آخرين، وتخفيض الانفعالات والأفكار والسلوكيات السلبية واستبدالها بالإيجابية.
يتضمن التسامح مع الآخر حدوث مجموعة من التغيرات الوجدانية والمعرفية والسلوكية داخل المُساء إليه تجاه فعل الإساءة والفرد المسيء، ويتفاعلان معاً من جديد، وذلك عندما يتسامح المساء إليه، ولا يظهر أية ردود أفعال سلبية تجاه المسيء، وعندما يحدث التسامح مع الآخر، يحدث التسامح مع الذات كعملية داخلية.

اليونسكو والتسامح المشروط
على أن التعريفات الفلسفية أو تلك المتصلة بعلم النفس، قد لا تجد لها طريقاً مُعبداً في وسط زحام الصراعات السياسية، ومن هنا كان لا بد من تحديد معنى التسامح وأبعاده الاجتماعية والدولية، ومظاهره الواجبة في التعليم والثقافة، وعلاقات الأفراد والدول على السواء، وهذا ما قامت به اليونسكو، من خلال الإعلان الذي أصدرته منذ العام 1995 وفيه ما يلي:
أولاً: التسامح هو احترام التنوع الثري لثقافات عالمنا، ولأشكال تعبيرنا وأساليب ممارستنا لإنسانيتنا، ويتعزز بوساطة المعرفة والانفتاح والتواصل مع الآخرين، وحرية الفكر والعقيدة والدين. فالتسامح هو التناغم في الاختلاف، وليس واجباً أخلاقياً فحسب، وإنما هو مطلب سياسي وقانوني في الوقت نفسه.
ثانياً: ليس التسامح تنازلاً أو تعاطفاً أو تساهلاً، وإنما هو في المقام الأول إقرار بحقوق الإنسان العالمية، واحترام للحريات الأساسية للآخرين. ولذلك لا يجوز استخدامه بأي حال من الأحوال لتبرير الاعتداء على القيم المبدئية للحقوق والحريات، سواء في ممارسة الأفراد أو المجموعات أو الدول.
ثالثاً: التسامح هو المسؤولية التي تتدعم بها حقوق الإنسان وأنواع التعددية، بما فيها التعددية الثقافية، كما تتدعم به الديمقراطية وسيادة القانون، ويستلزم نبذ النزعات الدوغمائية والاستبدادية، وتأكيد المبادئ المنصوص عليها في مواثيق حقوق الإنسان.
ولعل رؤية اليونسكو تفرز لنا مفاهيم حقيق بنا تأملها، فمن هنا يتبين لنا أن مبدأ التسامح له منابع متعددة دينية وسياسية، قانونية وعرقية، أخلاقية واجتماعية، فكرية وفلسفية، بل إن مسألة التسامح مع أطرها المتباينة أضحت ركناً أساسياً من أركان القانون الدولي لحقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني، وهو ضرورة أخلاقية انطلاقاً من كون التسامح ضرورة للتعايش، أو كما يقول غاندي: «لا أحب التسامح، ولكني لا أجد أفضل منه للتعبير عما أقصده».
ولعل الناظر إلى القرن العشرين، وبدايات قرننا الحالي يوقن بأنه على قدر جماليات مفهوم التسامح دينياً وإيمانياً، إنسانياً وخلقياً، بالقدر نفسه يصبح المفهوم حال غيابه شأناً كارثياً، فغياب التسامح يعني إفساح الطريق لعالم من التعصب والتمحور، التشرذم والأنانية غير المستنيرة، وكلاهما يمثلان الطريق المؤكد للحروب والشرور.

التسامح وجدلية قبول الآخر
من هو الآخر؟ وهل يمكن لي أن أتقبله دون درجات واضحة من التسامح؟ يمكن الاستفاضة في البحث عن الآخر في جذور الأديان التوحيدية الإبراهيمية وجميعها تحث على النظر على الآخر المغاير نظرة إنسانية، فمهما اختلف، فإنه يظل أخاً وشقيقاً في الإنسانية التي مرجعها أب وأم واحدة. وعليه فالاختلاف وجد مع تواجد الخلق، وهو حقيقة كونية لا يمكن نكرانها، أو المجادلة فيها، ومصدر من مصادر التنوع الحياتي الذي جعلها تبدو كلوحة رائعة الجمال والألوان والأشكال، ومن اللغات واللهجات، الأفكار والتقاليد.
وعلى الرغم من أن الإنسان بطبعه وطبيعته يسعى إلى التميز عن الآخر، ويرغب في العيش في عالمه الافتراضي، فإنه وفي الوقت ذاته كائن مجبول على الحياة الاجتماعية من حيث بناؤه الفسيولوجي، أي سعيه إلى تكوين علاقات اجتماعية مع الآخر المغاير... لماذا إذن طفت على السطح مشكلة الآخر؟

هل الآخر هو الجحيم؟
الجواب عن السؤال المتقدم يقودنا بالضرورة إلى إشكالية أشار إليها الفيلسوف الفرنسي الوجودي «جان بول سارتر» في إحدى كتاباته، حين أشار إلى أن الآخر هو الجحيم، والذي اقتبسه منه الكاتب «إدوارد البي» في مسرحيته «حديقة الحيوان»، حيث جاء على لسان أحد شخوصها «إن الجحيم هو الآخر».... والسؤال لماذا؟
يمكن للباحث المحقق والمدقق أن يكتشف الكثير في الدوافع الإنسانية، ما يعود بنا إلى الفيلسوف الإنجليزي «توماس هوبز» صاحب التعبير الشهير «الإنسان ذئب لأخيه الإنسان»، والذئب هو من لا يعرف غير فلسفة السطو والاعتداء من أجل اقتناص فريسته، ولا يدرك معرفة ما تيسر له حياة الجماعة، وعليه فإن الفردانية أو الشخصانية المفرطة في عالمنا الحديث، والسعي المفرط لتحقيق أكبر قدر ممكن من المصالح على حساب الآخر، جعلت النظرة لهذا الأخير وكأنه العدو الذي لا بد من ملاقاته في ساحات الوغى، وبذلك انقلبت الروح الإيمانية والإنسانية من النظر إلى الآخر وقبوله ضمن سياقات الأسرة البشرية الواحدة، إلى الآخر الذي هو عدو بالضرورة، وعليه فلا بد من الإجهاز عليه، إنها فلسفة العولمة التي سلَّعت الإنسان، أي جعلت من الآخر سلعة تباع وتشترى في الأسواق الدولية.

قبول الآخر والأخلاق العالمية
لعل إشكاليتنا في العالم العربي هي أننا دائماً ننظر في سياقات رؤيوية لا تخلو من مسحة دينية وهي ديدن الشعوب القديمة، لكن هناك من ينظر إلى الآخر في المذاهب الوضعية، لاسيما البوذية، نظرة فيها الكثير كذلك من السعي إلى حياة متسامحة متصالحة مع الآخر وعبره.
خذ، مثلاً، ما يشير إليه اللاهوتي السويسري «هانز كبنج» في نظرته للأخلاق العالمية، وكيف تتضح أهمية تلك المقاييس من خلال فحوى التقاليد الكونفوشيوسية، وتصوراتها عن النظام والقيم البالغة من العمر أكثر من ألفي عام.
هناك مصطلحان في الكونفوشيوسية، يقوم عليهما أيضاً المبدآن الأساسيان لمقاييس الأخلاق العالمية: فكرة «رين» REN، وتعني الإنسانية الحقة، وعلى هذه الفكرة يمكن تأسيس المبدأ الإنساني القائل «ينبغي أن يعامل كل إنسان معاملة إنسانية»، ومصطلح «شو» SHU، ويعني العلاقة المتبادلة أو المعاملة بالمثل، وعليه تؤسس القاعدة الذهبية التي كانت موجودة عند كونفوشيوس «الشيء الذي لا تريده لنفسك، لا تفعله بالآخرين».

فتّش عن التربية
هل يمكن أن يحدث التحول إلى ثقافة التسامح بقرار أم أن التسامح قيمة تربوية وتعليمية يجب تلقينها للأجيال المقبلة منذ سنوات الطفولة، لتكبر وتنشأ معهم يوماً تلو الآخر؟
في كتابه الشائق «أسئلة الهوية والتسامح، وثقافة الحوار» يحدثنا المثقف الإماراتي الدكتور يوسف الحسن، عن التسامح كقيمة تربوية، ويضرب أمثلة على رؤية أبوظبي لهذا المفهوم فيقول: «أمام البوابة الرئيسة لديوان ولي عهد أبوظبي، ما يلفت انتباه العابرين، ويدعوهم للتوقف والتأمل. تسع منحوتات فنية أبدعها فنان فرنسي من أصول جزائرية (Guy Ferrer). في نهاية عام 2008، وقد أمر صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان بحسه المرهف تجاه منظومة القيم المنشودة «بزرع» هذه المنحوتات البرونزية الفنية التسع، أمام الديوان، في رسالة إلى الناس.
ما ذهب إليه الشيخ محمد بن زايد يدفعنا للتساؤل: من هي الحاضنة الأولى المسؤولة عن زرع قيم التسامح في مجتمعات عالمنا المعاصر؟
الجواب الذي يذهب إليه الدكتور الحسن، هو الدولة، فمن خلالها يتم التربية على التسامح، وشرعنة قيمه، ليصبح ثقافة مجتمعية سائدة، تنبذ التميز والتطرف والعنف والإقصاء والكراهية.
في هذا الإطار، فإن الحاجة لإشاعة قيم التسامح، وبثها في فكر وسلوك وثقافة المواطن، ضرورة ملحة، وذلك من خلال توفير بيئة تعليمية وتربوية، وظروف موضوعية لتعميق مبادئ المواطنة المتساوية، واحترام الكرامة الإنسانية، وهي كرامة أسبق من كل انتماء أو هوية حضارية، وهي أيضاً حصانة أولية للإنسان، ثابتة له، بوصفه إنساناً كرمه خالقه، وجعله خليفة في الأرض، وأمده بقدرات وإمكانات لإعمارها وإصلاحها.
التربية على التسامح إذن فضيلة تمنع التعدي على حقوق الآخرين وحرياتهم، وتحول دون نشوب نزاعات عنيفة، وبالتسامح يمكن مواجهة تنامي التعصب، والفتن الطائفية والمذهبية، والتي تهدد الأمن الوطني والقومي والإنساني معاً.

الخلاصة
هل من فارق كبير بين التسامح وقبول الآخر؟
أغلب الظن أن العلاقة بين المفهومين مثل طريق من اتجاهين، لا من اتجاه واحد، فالتسامح يقوم على مبدأ قبول الآخر باختلافه وتباينه، وكلاهما يعمقان رؤية المبدأ الفلسفي والديني الطليعي المتعلق بالقبول بالوحدة الكونية والإنسانية. سوف تبقى الخلافات والاختلافات بين البشر طالما بقيت هناك حياة، غير أن المقدرة على توليد عالم مليء بالسلام أو أمم متناحرة بالخصام، مرجعه القدرة على إفساح الطريق للتسامح أو إغلاقه، النظر للآخر بوصفه الأخ الذي أحبه أو العدو الذي أترصده. التسامح الخلاق يعني قبول الآخر، والقبول يوجب رعاية الحقوق، ضمن إطار التنوع في الوحدة، والوحدة ضمن سياقات التنوع المتناغم، وكلاهما يصب في مصلحة بشرية بمعالم إنسانية بعيدة عن جحيم سارتر، أو ذئب هوبز.